بلغةٍ غير صوتية يحاول جاهدًا أن يُزيل عجزه عن الكلام، يُحرك يده يمينًا ويسارًا، أعلى وأسفل، يُصدر خلالها إشارات باتجاهاتٍ منتظمة وإيماءات يظنّ أنها ستُساعد محاوره للخروج من متاهة اللغة الجديدة، لكنّ من الصعب فهم لغة الإشارة إذا لم تتعلمها.
في هذا التقرير حاورت "وكالة سند للأنباء" كتابيًا، سعدي أبو عمرة (39 عامًا) من قطاع غزة، أول طالب أصمّ يحصل على درجة الماجستير على مستوى فلسطين، والثالث عربيًا.
"أبو عمرة" حصل على درجة الماجستير من كلية التربية بالجامعة الإسلامية، وهو أول معلّم للصمّ في فلسطين لطلبة الدبلوم المهني المتخصص، ويعمل حاليًا مدرسًا بإحدى مدراس الصمّ في العاصمة الألمانية برلين.
البداية
"طريق مبعد بالأشواك، لا شيء سهل في هذه الحياة، ومن يُريد الوصول لابد أن تُرهقه المتاعب أولًا"، استهّل سعدي أبو عمرة، حديثه لـ "وكالة سند للأنباء" بهذه الكلمات، فلولا "العزيمة" لكان الغَوص في غمِار حياة الـ "معاق سمعي" مرهقًا وشاقًا بلا فائدة.
فقد والده في الرابعة من عمره، يقول: "ليس سهلًا على الإنسان الطبيعي فقدان والده في مرحلة مبكرة من حياته، فكيف بإنسان لا يفهمه الناس، يعاني من إعاقة سمعية مثلي؟".
والدته حاولت مضاعفة جهودها معه في تلك الفترة، وقامت بتأدية دوري الأم والأب في آنٍ واحد، وأحاطته بعنايةٍ خاصة ليستطيع الوقوف مجددًا ولا يتعرض لانتكاساتٍ أخرى.
وعندما أصبح في السادسة من عمره، التحق في المدرسة كأي طالب، كان مفعمًا بالحياة مندفعًا نحو العالم الجديد، لكنّ رسب في الصف الأول، لم يستسلم وعاد إلى مقاعد الدراسة، وبسبب حالته رفضته إدارة المدرسة، فكانت أول صدمة يتلقاها بعد وفاة والده.
حاولت عائلة "سعدي" في تلك المرحلة شرح حالته لأكثر من مدرسة، الكثير رفضوه، إلى أن لَقي تعاطفًا من أحد المدراء، فرحبّ به واستقبله مع زملائه، ومن هنا عاد لمقاعد الدراسة.
كان يجلس "سعدي" في المقاعد الأولى التي يكون فيها مقابل الأساتذة، ليتمكن من فهم الدروس من خلال لغة الشفاه والايماءات، ساعد نفسه كثيرًا إلى جانب ما تلقاه من دعم ومساندة من الأهل والمعلمين، حتى وصل بتعليمه للمرحلة الثانوية العامة.
يُكمل: "رسبت في الثانوية العامة للمرة الأولى، فظروف الأصمّ في مجتمعنا لم تكن على سُلم أولويات المؤسسات الرسمية، وكل جهد بذلته كان شخصيًا وعائليًا، ومع ذلك لم أستسلم".
اتجه نحو رياض الأطفال، وعلّم الأطفال فيها الرسم، ليُشغل نفسه قدر الإمكان، وخلال تلك الفترة تلقى العديد من رسائل الدعم والُنصح ممن حوله لإكمال دراسته، وهذا دفعه مجددًا للعودة إلى مقاعد الدراسة، لكنّ وللمرة الثانية يفشل في الحصول على شهادة الثانوية العامة.
الفشل المتكرر.. أحَزن "سعدي" لكن لم يستسلم وعاد إلى المخيمات الصيفية ورياض الأطفال، وخلال عمله اقترح عليه مدير إحدى المدارس أن يكون معلمًا لمادة الرسم للصف العاشر، وعمل متطوعًا لأربعة شهور.
قدرته على الحياة والبحث عما يُثبت من خلاله ذاته، دفع إدارة المدرسة لتحفيزه مجددًا وإكمال دراسته، وعاد فعلاً وفي المرة الثالثة نحج في الثانوية العامة، لكن حين قرر الالتحاق في جامعة الأقصى، تم رفضه بناءً على معدل القبول لديهم.
كانت هناك محاولات لإقناعه بالالتحاق في كليات أخرى، لكنه كان مصرًا على الدراسة في جامعة الأقصى لأن فيها الكلية التي يُحب "كلية الفنون".
يُشير إلى أنه التقى خلال تلك الفترة بمسؤول الدعم النفسي لذوي الإعاقة بوزارة التربية والتعليم، وشرح له حالته وانتهي الحوار بينهما بوعود مطمئنة لـ "سعدي".
وبعد شهر من بداية الدوام الجامعي، وافقت إدارة الجامعة على استقباله ضمن كادرها الطلابي، وأصبح طالبًا في كلية الفنون، وهناك الكثير من الصعوبات واجهته خلال مرحلته الدراسية، إلا أنه استطاع تجاوزها وتخرج ليكن أول طالب في فلسطين يحصل على شهادة البكالوريوس.
وأسس بعد تخرجه من الجامعة، فريق "صحوة ضمير" لاستعياب فئة الصمّ في المجتمع وتبني قضاياهم ومساندتهم، وظلّ لعامين يعمل بشكلٍ متواصل لاستقطاب أكبر عدد ممكن من هذه الفئة إلى أن أصبحت هذه الجمعية معروفة وكبيرة.
تزوج "سعدي" زاوجًا عاديًا كما يصف، فهو لم يجد أي صعوبة باختيار شريكة حياته، والآن لديه 5 من الأطفال جميعهم أصحاء، يفهمون لغة والدهم تمامًا كما لو أنها اللغة الأم.
قديماً كان يُشار إلى أطفاله في المدارس "أبوهم ما بسمع ولا يتكلم" أما الآن فالأولاد يشيرون إليه "هذا والدي أستاذ جامعي، ويعمل في مدرسة عالمية".
أول معلم أصمّ
بعدما تمكّن سعدي أبو عمرة من فرض اسمه ونجاحه ّ، دعته الجامعة الإسلامية لحضور مؤتمر خاص بالصمّ، ومن هنا بدأت حلقة التواصل بينه وبين إدارة الجامعة تتسع، إلى أن تم اختياره لتدريس طلبة الصمّ، مادتي الرسم الحر والفوتوشوب.
ورغم الحواجز والعراقيل التي وُضعت أمامه، استطاع "ضيف سند" تخطيها بنجاح، وتمكن مؤخرًا من الحصول على شهادة الماجستير من كلية التربية في الجامعة الإسلامية.
ويعيش "سعدي" حاليًا في العاصمة الألمانية برلين، ويعمل معلمًا لـ "لغة الإشارة" في إحدى مدارس الصمّ.
هل شعرت يومًا بالضيق من "الإعاقة السمعية" يُجيب: "أبدا، الله خلقني هكذا.. وكل إنسان في هذه الحياة يُعاني من جانب ما، أشعر أنني أفضل حالًا من كثيرين فحياتي لم تتوقف عند السمع والكلام".