لكعك العيد ومعمولاته سِحرهما الخاص، ومذاقهما اللذيذ ورائحتهما الفوّاحة المشبعة بطعم الحنين إلى أيام الزمن الجميل، حيث جو الفَرح الذي كان يفرض نفسه على البيوت مهما كانت الظروف، واللمّات الرمضانية العائلية حتى الفجر، والحكايا التي لا تنتهي.
فبمجرد مرورك بين أزقة وشوراع قطاع غزة في هذه الأيام التي تسبق عيد الفطر السعيد، ستزكم أنفك الروائح الزكية، ويداعبك شعور لطيف، يأخذك لا إراديًا إلى ذكريات برائحة "كعكات العيد" تتسلل إليك رويدًا رويدًا لتعيدك طفلًا تلهو حول الفرن منتظرًا استواءه، وداخلك صوت يردد: "يا محلا لمتنا وجمعتنا كانت".
صناعة الكعك موروث فلسطيني قديم، مرتبط بشكلٍ رئيسي بمظاهر العيد في القطاع، ولا يكاد يخلو منه بيت فلسطيني، وقبل أيامٍ من قدوم عيد الفطر، يشرعن النساء بالتحضير له وشراء مستلزماته وحوائجه.
في إحدى بيوت مخيم الشاطئ، وحول طاولة مستديرة، كانت تجلس أم محمد، برفقة بناتها وزوجات أبنائها، يوزعن الأدوار بينهن، كخلية نحل، واحدة لتقطيع العجين، وأخرى تعتني بالعجوة، وثالثة للحشو وإكرام الكعك به، وسيدة متخصصة لخُبزه وصفّه.
تقول أم محمد لـ "سند": "من أبرز مظاهر العيد ودلائله، كان _ولا زال_ الكعك والمعمول، وكما ترون الأيام الأخيرة من رمضان، ننشغل بصناعة الكعك، وبكميات كبيرة، فنحن نُفضل صناعته بشكلٍ جماعي".
وتُشير إلى أن صناعة كعك العيد يضفي طابعًا خاصًا عندما يصنع في المنزل، ويشارك في صناعته كافة أفراد العائلة.
وتكون حبات الكعك على هيئة حلقات دائرية، أما المعمول فيعدّ في قوالب مزخرفة وهناك من يُفضل تحليته بالسكر، ويدخل في تجهيزه اليانسون والمحلب والعجوة والسميد والطحين.
والكثير من البيوت في الوقت الحالي باتت تعتمد على صناعة العجوة في البيت، بدلًا من شرائها كما تفعل أم محمد، وتُردف: "كنّا قديمًا نشتري العجوة، أما الأن فأصنع العجوة في موسم البلح، أرطبه، ثم أجففه، وأحفظه لموسم العيد، أوفر لنا، وأطيّب".
ولا تزال عائلة أم محمد تُحافظ على الجو العائلي، ولمّة الأقارب عند صناعة العيد، لكنّها تفتقد وجود الجيران، شردت بذهنها قليلًا ثم تابعت: " كنّا نُشارك الجيران في إعداد كعك العيد، حيث كانت الأمهات والبنات يجتمعن قبل العيد بأيام، نتناوب الأدوار فيما بيننا، بالذهاب لمنزل كل واحدة، لمساعدتها في صناعة الكعك".
وبعد ابتسامة صافية ختمت حديثها: "الله يرحم أيام زمان لو ترجع، كنّا ننتظر العيد من السنة للسنة، من شدة الفرحة التي كانت تغمرنا، ولمة الحبايب والأهل الحلوة وبترد الروح".
أم فراس، هي الأخرى من السيدات اللواتي، يفتقدن البهجة التي كانت تخلقها لمّة كعك العيد ومعمولاته، فلم تعد صناعة الكعك مرتبطة بمواسم الأعياد، والأغلب بات يصنعه متى شاء، وهذا أفقده معناه الجوهري، _وفق قولها_
تصمت قليلًا قبل أن تستكمل حديثها لـ "سند": "كنّا نسهر بعد صلاة التروايح حتى موعد السحور، نجتمع بصفاء نيّة، وحبّ، من أهل وجيران، وأقارب لا تنقطع أحاديثنا ولا صوت ضحكاتنا، أما الأن فالجمعات قلّت، وشراء الكعك الجاهز أصبح أسهل للكثيرين وأنا منهم".
وتُشير إلى سبب اختفاء بعض طقوس العيد، هو تطور أساليب الحياة، مردفةً: "في السنوات القليلة الماضية، ازدهرت حركة بيع الكعك والمعمول في محلات الحلويات، وهذا سهّل على الكثير خاصة الموظفين والموظفات فأصبح هناك إقبال كبير على شراء الكعك بدلًا من صنعه".
لكنّه بهجة العيد أليس كذلك؟ تردّ على سؤالنا بعد تنهيدة: "كان بهجة العيد، وأجزم لك أن مذاق الكعك، مرتبطًا بمن كانوا معنا وفارقونا، فأنا آخر مرة تذوقت بها طعم الكعك اللذيذ، كان في آخر رمضان قضته أمي معنا".
ولا تنفي أن غالبية العوائل في قطاع غزة، تحرص على صناعة الكعك في البيت، بدلًا من شراءه.
لكّن "البهجة والمذاق لم يكن كما كان في السابق" هذه الجملة التي تردد على لسان الكثيرات ممن سألتهن "سند" عن رأيهن بأجواء العيد، فما مرّ به القطاع _ولازال_ من مآسي وحروب، وظروف معيشية صعبة، جعل من أفراحه منقوصة، ولون البهجة خافتًا.
"لكل طريقته"
رغم أن الرائحة واحدة، والطقوس لا تختلف كثيرًا، لكنّ لا تتفق كل العوائل على طريقة واحدة في صناعة كعك العيد، فلكل مقادريه، وحشوته، وأسلوب في تخميره قبل التجهيز الأخير، فهنالك من يحشو الكعك بـ "الجوز"، ومنهم من يُفضلّه بـ "عجوة التمر"، وعوائل أخرى بـ "الحلقوم".
أم ممدوح عبد المالك(67 عامًا) مصرية تعيش في قطاع غزة، منذ سنوات طويلة، لكن تلك السنوات لم تشفع لطريقة الغزيين بإعداد الكعك، فهي لا تفضّل إلا الكعك المصري الذي يعتمد بشكلٍ رئيس على الدقيق (الطحين) وغالبًا لا يتم حشوه بـ "عجوة التمر"، فإما يكون سادة أو محشو بـ "الحلقوم".
بصوتها الطيّب تقول لـ "سند": "كل واحد فينا له طريقته الخاصة، الغزاويات يُفضلن كعكهن، وأنا لا أفضّل إلا الكعك المصري، الذي تعلمته عن أمي الله يرحمها".
وتشرح أم ممدوح طريقتها في إعداد الكعك، بأسلوب يجعلك تشتهي الكعك المصري، حتى لو لم تتذوقه من قبل: "يوضع الطحين في وعاء كبير، والسكر والمحلب والسمسم، والخميرة، ودقة الكعك(الكلفة)، ثم يُضاف له السمنّ البلدي المغلي، ويُعجّن الكعك بالحليب الطازج، وأطيبه حليب البقر".
ومن ثم تُغطي الوعاء، وتتركه لساعات، وتُقطع عجينة الكعك، وتُشكل على هيئة حلقات دائرية، وتصفّه على مفرش كبير لليوم التالي، ليتّم خبزه "وذوقوا طعّم الكعك على أصوله" تقول ذلك بنبرة لذيذة.
وفي سؤالنا هل تلجأين لحوائج الكعك الغزّي؟ تُجيب: "لا أنا كنت بروح الصعيد كل سنة مرة، وبشتري حوائج الكعك، من سمن وخميرة ودقة كعك (الكلفة) من هناك، وأعدّه وأوزع على الجيران والحبايب".
ورغم أن الكعك المصري، لم يحظَ بقبول وإعجاب عائلة زوجها، إلا أنها مصرّة أنه ألذ وأطيّب، لكنّ زوجك أيهما كان يُفضّل؟ ضحكت قبل أن تُجيب: "كنت أعد له الكعك المصري، لكن بكلفة الكعك الغزي، وهو أصلا لم ينقطع من الكعك الغزي، فالأقارب والأحباب كُثر".