ليس مُزاحاً حين يُقال "مات أحدهم من الجوع"، ولا دمعة يمكن أن تكون أكثر حرقة من دمعة أبٍ قُهر وعجِز أن يوفر لقمة لطفله الذي يموت أمام عينيه، وكيف سيكون حال أم تنادي " شو أطعمي ابني"؟، لكنها الحرب..
علي أنس التتر، ضحية جديدة فتكت حرب التجويع القائمة في شمال قطاع غزة بجسده الصغير، فجعلته هزيلاً انتهى به المطاف شهيداً، وهو لم يتجاوز السادسة من عمره.
علي ليس الأول بين أقرانه، فالعشرات سبقوه شهداء وحلَّقوا في ركب ضحايا المجاعة، وسط تساؤلات تُطرح، ثُم ماذا بعد؟!
"أقوى من جميع إخوته"..
تقول والدة الطفل "التتر" إن نجلها كان مريضاً بتضخم الكبد والطحال، قبل أن يُعالج في مستشفيات الداخل المحتل، وتعدّى مرحلة الاستئصال، مضيفةً أنه كان من المقرر سفره للمراجعة في شهر ديسمبر/ كانون أول الماضي، لكن اندلاع الحرب حال دون ذلك.
وبالعودة إلى حياة علي قليلاً خلال الحرب، تُبيِّن والدته لـ "وكالة سند للأنباء"، أن ابنها كان بكامل عافيته وصحته، وبوزن يصل 26 كيلوغرامًا، مردفةً: "كان علي أقوى من كل إخوته".
لكن الحال لم يبقَ كما هو، وبدأت معالم الجوع تظهر على جسد الطفل الهزيل، فأخذت حالته تزداد سوءاً، وبدأ مشوار التنقل من مستشفى لآخر وسط تردي الأوضاع الصحية وقلة خدماتها، بينما كان حديث الأطباء "ابنكم مصاب بسوء التغذية"، وفقاً لما ذكرت "التتر".
وتزيد ضيفتنا: "في آخر مرة ذهبنا به إلى مستشفى أصدقاء المريض، بدأ علي بالتحسن بعد تركيب محلول مغذٍ له وبعض الحليب والبسكويت، إلا أن المشفى تعرض لاقتحام إسرائيلي مفاجئ، نجونا منه بأعجوبة".
"صار 8 كيلو.."
"ثم بدأت صحة علي تنهار"، بهذه الكلمات التي تخرج من أم مكلومة، تُكمل ضيفتنا حديثها، بأن نجلها الطفل قد نقص وزنه إلى 8 كيلو، بعد أن كان 26، وأصبح لا يقوى على الحركة فأمه التي تجلسه وتحركه يمنةً ويسرى.
وبغصة في قلبها وحشرجة في صوتها تتابع "التتر" حديثها: "شو بدي أطعمي ابني؟! من وين نجيبله أكل صحي؟ من وين نجيب أكل من الأساس؟!".
وتضيف: "لم أكن أتوقع أن يتوفى علي بسبب سوء التغذية، وهو الذي نجا من مرض عضال".
وتشير "ضيفة سند" إلى أن الأطباء في المستشفيات كافةً، كانوا يعاملوا نجلها بحالة استثنائية ويقدموا له الحليب خلسة، لعدم توفر كميات تكفي جميع الأطفال.
الساعات الأخيرة..
أما عن الساعات الأخيرة، فقد تعرض علي لوعكة صحية شديدة، كان والديه ينتظرا بزوغ الفجر ليتوجها إلى المستشفى المعمداني، وإنْ تعسر الحال بهم، كان قرار النزوح إلى الجنوب حاضراً لإنقاذ روح "علي"، لكن الموت كان أقرب إليه من النهار.
وتردف والدة علي: "كان ابني قبل الحرب على البيض والكبدة والألبان بجميع أنواعها ويأكل بشكل طبيعي، لكن فترة المجاعة لم نكن نملك في بيتنا أي شيء، وأثر علينا أكثر إصابة والده مرتين في الحرب".
"غابت ابتسامته التي لا تُنسى، وكانت أمنيتي أن يسترد علي صحته ويعود للعب مع إخوته، لكنها الحرب والجوع والموت"، بهذه الكلمات ختمت السيدة المكلومة قولها لمراسلتنا.
قهر الرجال..
أما السيد أنس التتر؛ والد الشهيد علي، لم يكن على لسانه قول سوى الحمد، لكنها دمعة قهر الرجال سبقت حديثه لتشعره بالعجز، إذ لم يتمكن من توفير لقمة عيش لأطفاله.
وبصوت متحشرج تبعته دمعة حارقة، يقول: "تفاقيد ربنا رحمة، ربنا ما نسينا وأهل الخير كانوا يتفقدونا دائماً ويوفروا لنا بعض المستلزمات، لكن يا رب خايف على أولادي".
وعن إصابته يوضح لـ "وكالة سند للأنباء"، أنه نجا من موت محقق مرتين، تعرض خلالهما لحروق شديدة في الظهر والقدم اليسرى واليد اليسرى، إحداهما عند ذهابه للحصول على كيس للدقيق على شاطئ البحر.
لكن الآن جُل ما يتمناه والِدَي الشهيد التتر، هو النجاة بمن بقي من أبنائهم، وعدم تكرار مأساة الموت جوعاً من جديد.