في زمن تغرق فيه غزة تحت نار القصف ورائحة البارود، وتُهدّ البيوت على رؤوس ساكنيها، هناك من قرر أن يقاوم بطريقة مختلفة، لم يرفع سلاحًا، ولم يعتلِ منبرًا سياسيًا، بل حمل هاتفًا محمولًا، ومشى وسط الأنقاض، ليصوّر ضحكة.
فمن قلب الكارثة، ظهر صنّاع محتوى غزيون يحوّلون مشاهد الدمار إلى لحظات ساخرة، ليس سخرية من الألم، بل من عبثية الواقع، ومن حربٍ تحاول أن تسحق الحياة، هؤلاء ليسوا ممثلين محترفين، بل نازحون، ممرضون، طلاب، وأطفال، قرروا أن يصنعوا فنًّا شعبيًا، بسيطًا، لكنه عميق الأثر.
في هذه المادة، ترصد "وكالة سند للأنباء"، كيف تحولت الكوميديا إلى مساحة مقاومة نفسية في وجه آلة القتل، وكيف استطاع بعض الشباب والفتيات من غزة أن يجعلوا من الدمار اليومي مادة لفيديوهات ساخرة، تفيض بالمرارة، لكنها أيضًا تُبهج الروح.
أبو سمير.. ضحكة على هدنة
في مقطع مصوّر، يظهر سامر العامودي، المعروف بـ "أبو سمير"، يعلّق على أخبار الهدنة بكلمات ساخرة وبلهجة غزية محبّبة خلف ضحكته، تختبئ مآسٍ كثيرة: بيته دمّر، وأقارب له استشهدوا، لكن ما زال يختار السخرية ردًّا على الحرب.
سامر ليس مجرّد "كوميديان" عابر، هو ممرض في الأصل، وله جمهور واسع على مواقع التواصل الاجتماعي، كان يصنع محتوى ساخرًا حتى قبل الحرب، لكنه وجد نفسه اليوم أكثر التصاقًا بالناس من أي وقت مضى، يتحدث بلغتهم، ويحكي وجعهم، ويضحكهم على ما لا يُضحك، من حديثه عن الجنود الأسرى إلى يوميات النزوح والجوع، تحوّلت فيديوهاته إلى مساحة للغزيين للتنفّس وسط الضيق.
"جمعة".. مشاريعه فاشلة لكن ضحكته صامدة
أحمد جمعة، شاب في الرابعة والعشرين من عمره، يعيش تجربة الحرب بكل تفاصيلها الثقيلة، نزح من رفح، وترك دراسته في آخر سنة جامعية بتخصص تكنولوجيا المعلومات، ووجد نفسه عالقًا في مخيم للنزوح، دون إمكانيات، ولا حتى "مقلاة" ليكمل مشروع "بطاطا مقلية" كان يخطط له!
لكن أحمد، رغم كل شيء، لم يفقد حسّه الساخر، يطل على متابعيه الذين يتجاوز عددهم 1.3 مليون على إنستغرام، بمحتوى ساخر لا يبتسم فيه كثيرًا، لكنه يُضحك الملايين.
https://www.instagram.com/reel/C7t1T6co9T1/?igsh=MWhoc2lmZmNnZGdq
ومن تفاصيل حياته البسيطة والمليئة بالدمار حوله، ومشاريع أخيه الطفل التي يُفشلها عن قصد، يخلق "جمعة" نكتة من واقع لا يُطاق.
وحققت فيديوهات "جمعة" ملايين المشاهدات، ما يعكس حاجة الناس إلى هذا النوع من "الضحك المقاوم".
"خرجنا من رفح تحت القصف، وجدنا أنفسنا بلا خيارات، وعشنا في خيمة. مع ذلك، شعرت أنّ عليّ أن أقدّم محتوى ساخرًا يخفف عمّا عشناه، ونعيشه وسنعيشه لاحقًا."يقول أحمد.
كاظم رضوان.. السخرية تحت القيد
بدأ كاظم رضوان إنتاج المحتوى قبل الحرب بخمسة أشهر فقط، تجربة اعتقاله لدى الاحتلال الإسرائيلي في بدايات الحرب غيّرت مساره بالكامل، تحوّل من المحتوى الاجتماعي إلى الكوميديا الساخرة، مع وعي عميق بحساسية الجمهور.
يقول كاظم: "أصعب شيء هو أن تُضحك شعبًا جائعًا، موجوعًا، فقد كل شيء تقريبًا، أنا أحاول أن أُضحك دون أن أُهين وجعه."
يمتلك كاظم أبسط الأدوات: هاتف محمول، طاقة شمسية، ومثبت تصوير بدائي، ويواجه تحديات كبرى، ليس فقط في حياته اليومية، بل أيضًا في معاركه مع منصات التواصل الاجتماعي، وخصوصًا شركة "ميتا" التي تقيّد صفحاته بسبب سخريته السياسية، كما يقول: "نص الحرب راحت وأنا آخذ تقييدات من ميتا."
عبد الحميد عوكل.. من خطيبته في مصر إلى بسطة النازحين
"بتاخد عشرات؟" جملة يعرفها كل من شاهد فيديوهات عبد الحميد عوكل (23 عامًا)، المعروف باسم "عبّود".
كانت بداية ظهوره خلال الحرب بعد أن وجد نفسه نازحًا من الشمال إلى الجنوب، عاجزًا عن اللحاق بخطيبته في مصر، بسبب تكلفة التنسيق العالية.
كان عبّود يدرس الإعلام في جامعة الأقصى، وقرر أن يسخر من وضعه: خريج بلا عمل، بلا بيت، ولا حتى قدرة على الزواج.
صوّر فيديوهاته الأولى وهو يمثّل دور صاحب بسطة في السوق، يسخر من الحياة اليومية في الحرب: من غلاء الأسعار، إلى التعامل بالعملة الصغيرة، وحتى النوم وسط الضجيج والخوف.
اختار شخصية كرتونية يظهر فيها برأس ضخم كناية عن "عناد الغزّاوي"، وصنع محتوى شعبيًا بأسلوبه الخاص. اليوم، يتابعه أكثر من 170 ألف شخص، يرون في عبّود انعكاسًا لحياتهم.
وجه الضحك الصغير: تالا، محمود وأمير
تالا عليان، فتاة عادت إلى حيّها بعد وقف مؤقت لإطلاق النار، لتجد منزلها قد سُوّي بالأرض. لكن بدل أن تبكي، التقطت سروال جدتها من بين الأنقاض، وقالت: "عرفته من وجه الفرشة"، وضحكت، الفيديو انتشر، ولامس آلاف الناس.
أما الفتيان محمود وأمير موسى، فقدّما مقاطع تمثيلية تنتقد حتى المواقف السياسية الدولية، وخصوصًا تصريحات ترامب حول تهجير الغزيين. بأسلوب طفولي، لكن جريء، صوّرا محتوى فيه الكثير من الطرافة، والرسائل الضمنية العميقة.
الضحك في زمن الحرب ليس ترفًا
حين تُحوّل الضحكة إلى وسيلة مقاومة، يصبح الضحك عملًا سياسيًا في غزة، لا يضحكون لأن الأمور على ما يرام، بل لأنهم لا يريدون للوجع أن يُصبح الصّوت الوحيد في غزة، الكوميديا ليست مساحة للمرح بقدر ما هي وسيلة للبقاء.
هؤلاء ليسوا نجوماً على المسرح، بل أبطالًا على خطوط النار، يروّضون الألم بحسّ ساخر، ويحولون النكبة اليومية إلى مادة مضادة للكآبة، على أمل أن تظلّ الروح الفلسطينية قادرة على النهوض ولو بضحكة.
وتواصل "إسرائيل" حربها العدوانية على قطاع غزة، منذ 18 مارس/آذار الماضي، مستكملة حرب الإبادة التي بدأتها في 7 أكتوبر 2023، وسط خذلان عالمي غير مسبوق.
وسرقت الحرب من أهالي غزة حياتهم بكل تفاصيلها، حرموا خلالها من منازلهم وعائلاتهم، كما حرموا من الأمان والطعام.
ووفق تصريح لمكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية "أوتشا"، اليوم الثلاثاء، أشارت إلى أنه الوضع الإنساني في غزة هو الأسوأ منذ اندلاع الحرب قبل 18 شهرًا.