الساعة 00:00 م
الأحد 20 ابريل 2025
22° القدس
21° رام الله
21° الخليل
25° غزة
4.89 جنيه إسترليني
5.2 دينار أردني
0.07 جنيه مصري
4.19 يورو
3.69 دولار أمريكي
4

الأكثر رواجا Trending

وجبة من السم يوميًا.. الطهو على نيران البلاستيك خيار المضطر في غزة

هل تبقى قرارات "يونسكو" بشأن فلسطين حبراً على ورق؟

فيديو وجبة من السم يوميًا.. الطهو على نيران البلاستيك خيار المضطر في غزة

حجم الخط
حرق البلاستيك
غزة - إيمان شبير - وكالة سند للأنباء

حين يخنقون الهواء، ويغلقون الأفق على آخر شعاع للحياة، لا يجد الغزيّ سوى الرماد ليشعل، والنفايات ليشقّ منها طريقًا وسط الظلام، يحرقون البلاستيك؛ ليختصروا المسافة بين الموت والحياة، وليسرقوا لحظات من البقاء بين دخان خانق لا يرحم.

في قلب أعمق لحظات العوز، لا ينهار الإنسان في غزة، بل يتحول إلى مبتكرٍ يائس، يواجه مصيره باللامبالاة، يحرق البلاستيك، لا ليضيء طريقًا، بل ليستخرج من بين الدخان قطرة من حياة تتجدد من بين رائحة الاحتراق، ويبقى الإنسان يواجه الموت بابتكارٍ وحلمٍ للعيش، ولو للحظة إضافية.

وكل غمامة سوداء تصعد في الهواء، تحمل جزءًا من صدر أم، وسعال طفل، وصرخة لم تجد بعد من يسمعها، في غزة، لا يموت الناس من القصف فقط، بل من اختناقٍ بطيء يُشعلونه بأيديهم وهم يطبخون ما تبقى من حياة.

وفي ظل الحصار المستمر، لجأ الفلسطينيون في قطاع غزة إلى وسائل غير تقليدية لتلبية احتياجاتهم، حيث بدأ عدد من السكان في استخدام النفايات البلاستيكية كوسيلة لاستخراج كميات ضئيلة من الوقود، في محاولة يائسة لتجاوز أزمة خانقة أثقلت كاهلهم.

وتفاقمت هذه الأزمة بعد قرار "إسرائيل" إغلاق جميع المعابر مع قطاع غزة عقب انتهاء المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في مارس/آذار الماضي.

"وكالة سند للأنباء" تحدثت مع عدد من الفلسطينيين الذين يعانون في خيامهم، حيث يضطرون لجمع أكياس البلاستيك وأعقاب العلب لإشعالها، على أمل الحصول على لحظات من الدفء الزائف، بينما يختنق الأطفال في خيام تفتقر لأبسط وسائل الأمان.

"أطفالي جائعون"..

في إحدى زوايا خيمة نُصبت على عجل قرب مدرسة تُستخدم كمأوى مؤقت في شرق مدينة غزة، تجلس أم نائل ارحيّم تحتضن طفلها المصاب بالربو، تقول بصوت خافت يملؤه الألم: "طفلي لا يتجاوز الرابعة، ومع ذلك يُعاني من سعال دائم وضيق في التنفّس، لكن ماذا أفعل؟ لا يوجد وقود، ولا كهرباء، وأطفالي جائعون، أحرق البلاستيك لأطهوا لهم، وأنا أعلم أنني أقتلهم ببطء."

وتضيف "رحيّم"، "أحيانًا لا أجد حتى البلاستيك لأشعله، أبحث في الحاويات عن أي شيء يمكن أن يحترق، حتى الأحذية القديمة صرنا نحرقها، لا خيار لدينا، إما الجوع أو التسمم".

لم يختلف الحال كثيرًا عن أم طارق ياسين حيث عبرت بصوت مليء بالمرارة والألم: "كل شيء تغيّر، حتى الطعم، لا يوجد شيء الآن يروي جوعنا كما كان من قبل، نطهو على نار البلاستيك، والطعام الذي نعدّه لم يعد كما كان... بات طعمه ملوثًا، أطبخ أشياء قليلة، حتى الخبز أصبح شبه محترق من كثرة الدخان، لدينا فقط بقايا الطعام".

وتضيف "ياسين" بنبرة متألمة، وكأن الألم يلاحقها في كل كلمة، "أعلم أنني أضر بصحتي وصحة أطفالي، هذا الطعام مليء بالسموم، لكن ماذا أفعل؟ لا يوجد وقود، ولا كهرباء، أحرق الأكياس والعلب البلاستيكية، وهذه هي الطريقة الوحيدة لطهو الطعام، لا أستطيع أن أترك أطفالي جائعين، حتى لو كان ذلك يعني أنني أسممهم ببطء."

توقفت لحظة، ثم أكملت وهي تنظر إلى النار: "أراهم يلتهمون الطعام وأنا قلبي ينفطر، كلما أرى أطفالي يأكلون هذا الطعام، أتخيل كيف يضرهم هذا السم ببطء، لكننا لا نملك خيارًا آخر، وأنا عاجزة عن مساعدتهم أكثر".

أما في مخيمات المواصي بخان يونس المكتظة بالأسر النازحة، يقول محمود كحيل، وهو أب لثلاثة أطفال، إنّ الحياة لم تعد تُطاق، لم نعد نشعر بالجوع فقط، بل نُصارع الهواء الذي نستنشق، البلاستيك هو وقودنا الوحيد، لكنه سمّ يومي، طفلي الأصغر أصيب بطفح جلدي والتهابات في العيون، لكن من أين نأتي بالبدائل؟"

أمّا المواطنة أم محمد جرادة، تُعبر عن وجعها، "كل يوم، أضطر للخروج للبحث عن البلاستيك، وأبحث بين النفايات التي يتركها الآخرون، إذا وجدت أكياسًا بلاستيكية أو زجاجات فارغة، آخذها على الفور، لا أستطيع أن أتركها، حتى لو كانت متسخة أو متفحمة من الحرائق السابقة، هذه الأشياء التي تُعتبر نفايات في مكان آخر، هي وقودنا الآن."

وتستمر "جرادة" في الحديث، "عندما مررت بجانب أحد المحلات المهجورة، رأيت بعض الأكياس البلاستيكية الملقاة على الأرض، حتى لو كان مغطى بالغبار والردم، أخذته فورًا، وأنا أعرف أنه في النهاية سيكون هو ما يجعلني أطبخ لأولادي قليلًا من الطعام".

"تحذيرات طبية"..

تُحذر الممرضة هبة الشنشير في شمال قطاع غزة، من الأضرار الصحية البالغة التي قد يتعرض لها السكان نتيجة حرق البلاستيك داخل المنازل، مشيرة إلى أن هذه الممارسة تُطلق مواد كيميائية شديدة السمية مثل الديوكسينات، الفورمالديهايد، وأول أكسيد الكربون، وهي مركبات تسبب اختناقًا فوريًا واضطرابات تنفسية حادة، لا سيما لدى الأطفال وكبار السن.

وتضيف "الشنشير" لـ "وكالة سند للأنباء"، أن استنشاق هذه الأدخنة يؤدي إلى تهيّج العينين والأنف والحنجرة، إضافة إلى الشعور بـالدوخة، والصداع، والغثيان، نتيجة انخفاض مستويات الأكسجين وارتفاع نسبة أول أكسيد الكربون في الهواء.

وتوضح "الشنشير" أن خطورة هذه الأدخنة تتفاقم في بيئة مغلقة ومكتظة مثل قطاع غزة، حيث تضعف التهوية وتُحتجز الغازات السامة داخل البيوت.

وتُبيّن أن الأطفال هم الأكثر تضررًا نظرًا لهشاشة أجسامهم وعدم اكتمال نمو جهازهم التنفسي، ما يزيد من احتمال إصابتهم بـالربو والالتهابات المزمنة، أما كبار السن، فهم يعانون من ضعف المناعة، مما يجعلهم عرضة لأمراض القلب والرئة.

وتُشير إلى أن الأشخاص المصابين مسبقًا بأمراض تنفسية يتعرضون لتدهور صحي سريع، وقد تؤدي النوبات الناتجة عن استنشاق الأدخنة إلى مضاعفات خطيرة وربما الوفاة.

وتنبه "الشنشير" إلى أن الاستمرار في استخدام البلاستيك كوسيلة للطهي أو التدفئة لا يتسبب فقط في أضرار فورية، بل يؤدي إلى تراكم السموم في الجسم بمرور الوقت، وهو ما قد ينجم عنه أمراض مزمنة وخطيرة.

وتذكر من بين الأمراض: سرطانات الرئة والحنجرة، والعقم، ومشاكل الإنجاب نتيجة اضطراب الهرمونات، وتشوهات خلقية عند الأجنة في حال تعرض النساء الحوامل لتلك الأدخنة، بالإضافة إلى تدهور القدرات العقلية والذاكرة لدى الأطفال بفعل التأثيرات العصبية المستمرة، وأمراض القلب المزمنة والوفاة المبكرة بين كبار السن ومرضى الضغط.

وفي ختام حديثها، تؤكد "الشنشير" تفهّمها للظروف الصعبة التي يمر بها أهالي غزة، والاضطرار إلى استخدام أي وسيلة للطهي والتدفئة، إلا أن حرق البلاستيك هو بمثابة حرق للصحة، داعية إلى البحث عن بدائل أكثر أمانًا، مثل الحطب الطبيعي أو الكرتون غير الملوّن، وتجنّب حرق العبوات البلاستيكية وخاصة تلك التي تحتوي على أصباغ أو مواد صناعية، مع ضرورة فتح النوافذ عند الطهي بالنار لتقليل تراكم الدخان قدر الإمكان.