لا تبتئس فالعُمرُ مَرة، وكؤوس المجدِ مُرة، وستنطوي أيامُ يأسِكَ وسترتوي عذب المَسَرَّة، إنَّ المُنى تحتاجُ بذلاً لتكون للساعينَ قُرة، هي الدنيا تقاسيها فتقسو، وإن هوَّنتها بالحُبِ هانت.
مَن قال إن طريق الوصول يقيده رقم يزداد كُل عام فتطوي صفحات حياتك كلما ارتفع؟ ما كَلَّ مَن رامَ النجوم، وارتفع بآماله نحو الغيوم، فكما قال صديقنا " عمري 84 سنة، و لسة بدي أشوف مستقبلي وأمشي في طريقي وأكوِّن نفسي".
الحاج محمد الأسطل (84 عاماً)، رسامٌ بقبضته ريشة ولوحة وعُلبة ألوان، يصول ويجول بهم العالم من وَحي فِكرِه ومعايشته.
وفي زيارة "وكالة سند للأنباء" لمعرض العم "أبو حسين" في مدينة خانيونس جنوب قطاع غزة، رأينا جمالاً تراثياً عربياً تجسد في لوحات تروي حقبة من الزمن امتدت لما بين عام 1940 إلى عامنا هذا.
" 450 لوحة رُسمت بحُب"
يحدثنا "أبو حسين" عن معرضه المكون من 450 لوحةٍ، 220 منها في بيته بخانيونس، وبقيتها في بيته بالولايات المتحدة الأمريكية، إذا بدأ برسمها منذ عام 1961 عندما كان طالباً في كلية الفنون الجميلة صباحاً، وفي معهد ليناردو دافنشي مساءً، في العاصمة المصرية القاهرة.
التراث الفلسطيني، سكة القطار، ومواصي مدينة خانيونس التي ترعرع في أحضانها، ناهيك عن جلسات الأجداد على المقاعد الخشبية يحتسون أكواب الشاي، الحقول والورود، وبعض التراث العربي من بلادٍ شتى، كلها مظاهر تجلت في لوحات فنية أبدعت بها ريشة ضيفنا "أبو حسين".
"لوحاتي مثل أولادي، ما ببيعها، ولا بفرِّط بيها"، يصف العم "محمد" حبه للوحاته التي اعتبرها بمثابة الولدِ له، فأراد أن يفتتح معرضاً دائماً في بيته للمارة والمتفرجين؛ للتعرف على الحياة القديمة والتراث الفلسطيني والعربي.
"بداية الطريق"
وفي حديثٍ ماتعٍ عن بداية الطريق، يقول "أبو حسين"، إن الرسم موهبةً له مُذ كان في العاشرةِ من عمره، وفي عام 1956 انتقل للدراسة في مصر التي مكث فيها خمس سنوات، ليعود بعدها إلى غزة بحصيلة علمية فنية كبيرة.
وفي عام 1960 افتتح ضيفنا أستوديو تصوير ومرسماً يطور فيه أعماله، إلى أن غادرَ القطاع للكويت بعد النكسة الفلسطينية عام 1967، فبدأ مشواره هناك بعمله مُدرِساً ومصوراً وصحفياً ورساماً لمدة 24 عاماً.
في رحلةٍ بين البلاد، انتقل "أبو حسين" للعيش في أمريكا، التي كانت صاحبة النصيب الأوفى في رسم أكبر عدد من اللوحات، وشارك في العديد من المعارض لإمتاع الجاليات العربية في ولاية "ميشيغان" الأمريكية.
يستخدم الفنان "محمد" ألون الأكريليك والزيت التي يرسم بها على ورق "الكانفس"، مبيناً ميوله لاستخدام الأكريليك نظراً لعدم استغراقه وقتاً حتى يجف على اللوحة.
ويستطرد ضيف "سند"، " إنِّي أحب الرسم وما زلت أرسم رغم كبر سني، وسأسعى للمحافظة على لوحاتي حتى بعد موتي".
"أحب الليل"
يستمتع "أبو حسين" برسمه ليلاً، فيلتقط ريشته وقت السَحر، ويبدأ ينثر ما توحيه ذاكرته من مشاهد عاشها أو رآها في منامه، على لوحته الفنية، وقد تستغرق اللوحة لتكتمل أسابيع وشهوراً.
ويلفتنا في لوحات الفنان "محمد" وجود طفلٍ صغير في معظم اللوحات، ويجيبنا عن هذا التساؤل، أنه هو ذلك الطفل في اللوحة، فيرسم المشهد الذي علق بذاكرته عندما كان فيه، وكإنه يصور لنا حياته ويرى نفسه في لوحته، فيعيده الحنين إلى الماضي.
يعتبر العم "أو حسين" لوحاته مرجعاً وأرشيفاً تاريخياً على هيئة فَن يُمتع الأبصار، إذ يبين فيه حياةً قديمةً عاشها الأجداد، ومِهن مارسها الآباء، لتكون رمزاً لأبناء اليوم.
تحمل لوحاته مشاهد التنقل في الصحراء، والعيش في الخيام و "بيوت الشَعر" البدوية، وتراثاً فلسطينياً للمخبوزات على الطابون، وحراثة الأراضي وفلاحتها في خانيونس.
وانتقل ليعبر عن حياة الكويت التي شاهدها، ليرسم لوحات تحتضن الصيادين وحيات أهل البلاد المتنقلة، كذلك التراث المصري والعراقي.
وفي أمريكا، انتهز ضيفنا وجوده؛ ليستثمر جمال الطبيعة والمناطق الخلابة هناك، وأسقطها على لوحاته، ما بين الطيور والأنهار والشلالات والغابات.
أما عن زيارته إلى غزة، فكان يحمل معه في كل زيارة مجموعة من لوحاته لتحويل منزله الفارغ إلى معرض دائم.
"إلى حصيلة الآخرة"
ومن رسم الحياة، إلى حصيلة الآخرة، في عبارة قالها العم "أبو حسين"، " أنا ماشي على سكة حديد، أرسم جمال الدنيا، وأضع أثراً يبقى معي بعد أن أموت".
فقد خطت ريشته عبارات قرآنية، وأدعية ورسومات لأماكن إسلامية، معتبراً ذلك مكسباً أخروياً من مجاله الذي يحب.
وينهي حديثه لمراسلة "وكالة سند للأنباء"، " أنا يا بنتي بعمل في دنيتي كأنني سأعيش أبداً، وأعمل لآخرتي كأنني سأموت غداً، أنا عمري 84 لكنِّي أسير كأنني بدأتُ الآن".