بعد أن عمّ الإضراب الشامل مخيم شعفاط، الخميس الماضي؛ رفضاً لسياسة التنكيل والحصار والعقاب الجماعي التي يمارسها الاحتلال الإسرائيلي، دخلت أحياء وبلدات مقدسية إلى ميدان المواجهة، لتلتحم وضواحي القدس في ثورة موحدّة بوجه الاحتلال.
وانطلقت شرارة "العصيان" من مخيم شعفاط شمال شرقي القدس، رفضًا للانتهاكات التي يتعرض لها أهالي المخيم والتي تصاعدت بشكل "لا يحتمل" مؤخرًا، فكانت "القشة التي قصمت ظهر البعير".
وثقت عدسات الكاميرات مشاهد اعتداءات مهينة يتعرض لها أهالي المخيم والمقدسيين على الحواجز الإسرائيلية، كإجبارهم على خلع ملابسهم أمام المارة وتفتيش حقائبهم بشكل دقيق، في حين كان يتعرض من يرفض التفتيش للضرب المبرح.
ومساء السبت الماضي، صدحت مكبرات الصوت في مساجد مخيم شعفاط، والرام، وكفر عقب، وجبل المكبر، والعيسوية، وشعفاط، وفي جميع أحياء وبلدات القدس، معلنة الإضراب العام والعصيان المدني الشامل الأحد، بدعوة من القوى الوطنية والإسلامية في المدينة.
ويشمل العصيان المدني امتناع العمال الفلسطينيين عن التوجه إلى أماكن عملهم بالداخل المحتل، ومقاطعة الاحتلال وعدم التعامل معه بشتى الطرق، وإغلاق الطريق المؤدي لحاجز مخيم شعفاط، وعدم السماح لأي شخص بالمرور من خلاله، وإغلاق مدخل عناتا.
تحطيم "السيادة" الإسرائيلية..
رئيس الهيئة المقدسية لمناهضة التهويد ناصر الهدمي، يقول إن العصيان جاء تعبيرًا عن حالة غضب ورفض المجتمع المقدسي لممارسات الاحتلال في بعض الأحياء.
ويرى "الهدمي" أن ما دفع لهذا الشكل النضالي، هو تغير الأمور عما كانت قبل 30 سنة حينما كان يمكن إقناع الشعب الفلسطيني بالمسيرة السلمية، كما أن المجتمع اليهودي وصل لمرحلة لا يفكر فيها بإعطاء الفلسطينيين حقوقهم، وفق قوله.
ويكمل حديثه لـ "وكالة سند للأنباء": "وصلنا لمرحلة أثبت فيها الشعب الفلسطيني أنه عصي على الإنهاء والإبادة والمحو، وأنه قادر على إثبات هويته ومواجهة مخططات الاحتلال".
ويحمل العصيان دلالات مهمة في القدس الواقعة في بؤرة "السيادة" الإسرائيلية وفق نظر الاحتلال، فلا معنى لأي سيادة ما لم تكن واضحة ومكتملة في القدس، وفق الهدمي.
وأضاف: "هذا ما يزعج إسرائيل، التي عملت لسنوات طويلة للحصول على اعتراف أمريكي بالقدس عاصمة لها، فجاء أهالي القدس ليدحضوا هذا الادعاء".
ويشير "ضيف سند" للعمليات الفدائية الأخيرة التي وقعت في عهد وزير الأمن الداخلي إيتمار بن غفير، والذي تحدث عن عملية "سور واقي 2" في القدس، في الوقت الذي يقدم نفسه أن له السيادة فيها، لكن تبين أن هناك من ينازعه على سيادته فيها.
ويترك العصيان في القدس أثرًا ملموسًا في أرجاء المدينة كافة؛ بسبب طبيعة التداخل مع الاحتلال، فقد عمدت إسرائيل منذ احتلالها القدس للتغلغل في المجتمع المقدسي بكل تفاصيله.
ويعمل الكثير من أبناء القدس في مصالح إسرائيلية تجارية وخاصة وحكومية "إسرائيلية"، فمنهم سائقو الحافلات وعمال البلدية، وهم يحركون المجتمع الإسرائيلي الذي يعتمد عليهم كثيرًا.
وينعكس امتناع العمال عن التوجه للعمل والامتناع عن فتح المحلات وتوقف روتين الحياة بشكل كامل، على الواقع التجاري عند الاحتلال وعلى ممارسته لسيادته على القدس.
ولا يتوقف الأمر على الوضع الاقتصادي والتجاري بالقدس، بل امتد للوضع الأمني بفعل خروج المواطنين باتجاه الحواجز واندلاع مواجهات مع الاحتلال.
ويبيّن "الهدمي" أن الاحتلال لم يترك للمقدسيين خيارًا سوى اللجوء إلى العصيان المدني؛ للحفاظ على وجودهم في المدينة بعد أن استنفدوا كل الخيارات.
ويردف: "معاناة المقدسيين أشد من معاناة بقية الفلسطينيين بالضفة الغربية، ويواجهون قيودًا في تنقلاتهم اليومية، ويحاول الاحتلال التنكيل بهم في كل لحظة وعلى مدار الساعة، ولم يعد لهم من سبيل آخر".
تكرار لـ "الثورة الكبرى"..
ولا يعد إضراب أحياء القدس الحالي الأول من نوعه في الذاكرة الفلسطينية المعاصرة، إذ يمتلك الشعب الفلسطيني واحدة من أهم التجارب في العصيان المدني، وهو إضراب عام 1936 الذي استمر قرابة 6 شهور متواصلة وكاد أن يحقق أهدافه ويغيّر المعادلة.
ويبين أستاذ التاريخ في جامعة النجاح الوطنية أمين أبو بكر، أن الإضراب الكبير أو الثورة الفلسطينية الكبرى عام 1936، كانت أفضل تجربة وأبرز مثال على العصيان المدني.
والثورة الكبرى، هي انتفاضة وطنية قام بها الفلسطينيون ضد الإدارة البريطانية للولاية الفلسطينية، والمطالبة بالاستقلال، وإنهاء سياسة الهجرة اليهودية المفتوحة، وشراء الأراضي.
ويوضح أستاذ التاريخ لـ "وكالة سند للأنباء": "بريطانيا والحركة الصهيونية عانتا من تلك التجربة وحاولت بريطانيا كسرها بالقوة وفشلت، فلجأت للزعماء العرب الذين ضغطوا على الحاج أمين الحسيني وأفشلوها".
ويعزو أبو بكر نجاح تلك التجربة في التأثير على بريطانيا إلى "الإصرار والقوة والتأييد والتماسك"، مردفًا: "كانت لدى الفلسطينيين قدرة على خوض عصيان مدني ونفذوه بنجاح؛ لأن طبيعة الحياة كانت تسمح بذلك، وكان بالإمكان إعلان دولة فلسطين".
واشتركت فلسطين من شمالها إلى جنوبها ومن شرقها لغربها في الإضراب الكبير عام 1936، وانخرطت فيه كل القطاعات، وكان الشعب الفلسطيني قادرًا على توفير كل الإمكانات، وشارك فيه عمال سكة الحديد البالغ عددهم 20 ألف عامل، ما أصاب كل الحياة العامة بالشلل، وفق "أبو بكر".
وكمثال على أثر العصيان المدني، وبسبب الحضور الفلسطيني في ميناءي حيفا ويافا، لجأت الحركة الصهيونية لاحقًا لبناء ميناء تل أبيب عندما تنبهت إلى إمكانية حدوث عصيان يعطل الحياة.
ويقول "أبو بكر": "حتى الفلسطينيين العاملين في الجيش البريطاني شاركوا بالإضراب وكانت الثورة الفلسطينية قادرة على تعويضهم".
ويرى أن ما جرى في انتفاضة عام في 1987 من بعض مظاهر العصيان المدني مثل إلقاء الهويات، والامتناع عن دفع الضرائب، كانت محاولات لا يمكن التقليل من أهميتها، لكنها لم تصل إلى العصيان الشامل.
ويعتقد ضيفنا أن تجربة العصيان المدني الحالية في القدس شبيهة بتجربة إضراب عام 1936؛ بسبب وجود اتصال عضوي بين فلسطينيي القدس مع المجتمع الإسرائيلي.
أما ممارسة العصيان المدني في بقية الضفة وغزة حاليًا، من وجهة نظر "أبو بكر"، "فهو لا يجدي؛ لعدم وجود اتصال عضوي، وأي محاولة من هذا القبيل سيكون تأثيرها عكسيًا"، تبعًا لقوله.