قبل مئة يوم ويزيد، خرج نفرٌ من قطاع محاصر يعجّ بمليوني نسمة، من بين زقاق المخيمات المتلاصقة والشوارع المكتظة، يبحثون عن الحرية ويخطّون سطراً جديداً في تاريخ القضية الفلسطينية.
إمامٌ صلّى الفجر في مسجده وانطلق، أبٌ خرج دون أن يودع عياله، شابٌ ترك والديه، مزارع أدار ظهره لمزرعته، طالب هجر مقاعد الدراسة، عامل بنّاء قرر عدم الذهاب لورشته، ومهندسٌ كان في نيته تصميم آخر.
كلهم تجمعوا وأجمعوا على ذات الهدف، آن لهذا الحصار أن يُكسر، وآن للأسرى أن يُحرروا، آن لليد الممتدة على المسجد الأقصى أن تقطع، وآن للمعتدين على المرابطات أن يدفعوا الثمن، آن للقضية المقدسة أن تعود على أجندة العالم، وآن للتطبيع أن يُدفن.
صوب الجدار والسياج توجهوا، هو مكان يخبرونه جيداً ويعرفونه تمام المعرفة، فعلى حدوده فقد المئات من أصدقائهم وأقاربهم أرواحهم وأطرافهم في مسيرات العودة، تلك الفعالية السلمية التي أدار العالم ظهره لها قبل خمس سنوات، سلمية لم تجدي نفعاً مع مجتمع دولي لا يرى غير الأقوياء.
قلاع من رمل
جدار طويل وسميك تعلوه أسلاكٌ شائكة، وسياج منيع وحصين تعلوه كاميرات مراقبة، هكذا ظل حاضراً في مخيلة الضعفاء فقط، الذين يرون في إسرائيل بتكلنولوجيتها وجيشها واستخباراتها طرفاً لا يُقهر، أما هم فكانوا بإعدادهم وثقتهم بالله يرون المنطقة الحدودية وكأنها فراغ في فراغ.
تهاوت التحصينات سريعاً، وسقطت الأسوار كقلاع من رمل ضربتها موجة صغيرة، أُصيبت أعين إسرائيل بالعمى وآذانها بالطرش، ورجال الحراسة أكملوا نومتهم الأخيرة، ومن نجا منهم ساقوه ليكون رقماً في التبادل.
الثقوب في كل مكان على طول القطاع المحاصر، بعضها صغير يسمح بمرور مقاتل، وبعضها كبير يتيح لجرافة أن تعمل براحتها، آلاف الغزيين المحشورين منذ عقود اندفعوا صوب الشرق.
بين الحلم والكابوس
المقاتلون صاروا في الضفة الأخرى، بعضهم جاء على دراجة، وبعضهم تحمله سيارة دفع رباعي، وآخرون حطوا من السماء كملائكة تحملهم مراوح كبيرة، وكثيرون جاؤوا سيراً على الأقدام، كحال أجدادهم الذين أُخرجوا من ذات المكان قبل 75 عاماً.
المشاهد لا تصدق، ولولا الكميرات والمشاهد لظن أصحاب الأرض أنهم في حلم، ولظن الأشرار المغتصبين أنهم في كابوس، جنودٌ يُسحبون من داخل الدبابات وآخرون يُقتلون في مهاجعهم، معسكرات تُقتحم ومواقع عسكرية تسقط في قبضة المهاجمين وكأنها من مجسمات ورقية.
لأول مرة في تاريخ الصراع، يتحول المقاتل الفلسطيني لمهاجم ولأول مرة تطؤ قدمه أرضه التي أُخرج أجداده منها عام 1948، كانوا هذه المرة مجموعات وليسوا فرادى كحال الفدائيين الذين نفذوا عملياتهم خلال انتفاضة الأقصى وما قبلها وما بعدها.
جاسوا خلال الديار
اقتحموا وجاسوا خلال الديار، بقي من بقي منهم عدة أيام قبل أن يُستشهد، يشاغل العدو، وعاد من عاد منهم ليروي لنا يوماً فصول الحكاية ويخبرنا عن قصص جبنهم وخوفهم.
تمر الساعات تباعاً وقادة الاحتلال لم يستفيقوا بعد من صدمتهم، فتهب أمريكا ومن على شاكلتها لنجدتهم، تمدها بالمدد، بارجات وحاملات طائرات، خطوط إمداد بالسلاح والذخيرة والمعدات.
ترمي إٍسرائيل المجروحة في كبريائها والمطعونة في سمعتها كل ما في جعبتها من صواريخ وقذائف ومتفجرات، تصب جام غضبها ونارها وحممها فوق رؤوس الناس صباً، تقتل من تقتل وتبيد من تبيد.
لا يهم إن كان المستهدف مسجداً أو كنيسة، مشفىً أو مدرسة إيواء، عمارة سكنية أو مخبزاً يبيع التنور، سوق تجاري أو نادي رياضي.
لا يهم إن كان الضحايا أطفال أو نساء، عجزة أو مرضى، أطباء أو مسعفون، صحفيون أو مصورون، لا يهم، المهم أن أعداد القتلى بالآلاف في محاولة لإطفاء نار الحقد في قلوب الإسرائيليين.
وفي الخلفية تصريح في إثر تصريحات يطلقها قادة في الجيش والمخابرات، وزراء وأعضاء كنيست يتوعدون غزة بالهلاك والثبور، يختلفون في الكيفية حتى وإن كانت بقنبلة نووية، ويتفقون على الثأر والتدمير.
الأطفال الفلسطينيين كانوا على رأس أولويات القتل وعلى قائمة بنك الأهداف، من عمر يوم لعمر 18 عاماً، سبعة آلاف ويزيد فقدوا حياتهم، كلهم كانوا مطلوبين للاحتلال كحال فرعون حين قتّل أبناء بني إسرائيل خوفاً من حلم رأى فيه هلاكه وتدمير ملكه.
أسيرٌ يلوّح لآسريه!
وسط هذا الدمار والموت المنتشر في كل ركن من أركان القطاع المدمر، تظهر صورٌ أخرى فيها من التناقضات الكثير، تُخرِجُ المقاومة بعضاً من أسراها الإسرائيليين، في مشاهد وداع لم يعرف التاريخ القديم والحديث مثلها.
أسيرٌ يلّوح لآسريه بالتحية، ابتسامة تصل لحد الضحكة قبل الفراق، وهناك في ديارهم يروون عبر الشاشات حكايا حسن المعاملة والرحمة التي تصل لحد تطويقهم بأجساد آسريهم خوفاً عليهم من صواريخ بني قومهم.
وبعد هدنة لأسبوع تعود إسرائيل لسيرتها الأولى قصفاً ودماراً، تجويعاً ومنعاً لإدخال المساعدات والوقود والدواء، ويعود رجال المقاومة لبث مشاهد تدمير الدبابات وناقلات الجند والجرافات، تدميرٌ بالقذائف المحمولة على الكتف حيناً وبالعبوات الأرضية أحياناً أخرى.
مشاهد أظهرت تفوق المقاتلين الحفاة والمتخففين من ملابسهم على الجنود المدججين بأحدث الأسلحة والعتاد، مشاهد أظهرت كيف حوّل أهل الأرض الدمار والردم لسواتر تبعدهم عن أعين عدوهم، مشاهد أظهرت خروج المقاوم من باطن الأرض وعودته إليها خلال ثوانٍ تفصل بين سحب صاعق العبوة والانفجار.
أزمة في مجلس الحرب
اليوم، وبعد مئة يوم وزيادة على الملحمة التاريخية، لا تزال الصواريخ تنطلق من الأحياء التي أعلن الاحتلال سحق المقاومين فيها، ولا تزال الرشقات تتساقط على مستوطنات الغلاف، تلك المناطق التي طلب قادة الاحتلال من سكانها العودة إليها.
اليوم، وبعد مئة يوم وزيادة تتعمق أزمة مجلس حرب الاحتلال ويتخبط بعد فشله في تحقيق أي من أهداف الحرب الثلاثة التي أعلن عنها، كل واحد فيهم يرى في الحرب فرصة لتعزيز حضوره السياسي، يتطلع لليوم الذي يلي نهاية الحرب.
وحده نتنياهو الذي يرى في نهايتها بداية لمحاكمته وسجنه، فلا يبدو متعجلاً بل ويسعى لتوسيع رقعتها في الشمال وإطالتها.
خاتمة معروفة النتائج
لا أحد يعرف تماماً كيف ستنتهي هذه الحرب وكيف ستكون مآلاتها وتداعياتها، لكن الذي نعرفه جيداً أن"طوفان الأقصى" كانت صفعة وصرخة في آن، صفعة في وجه الاحتلال وصرخة في وجه العالم الظالم.
الذي نعرفه تماماً أن مخططات التهجير والترحيل واقتلاع الفلسطيني من أرضه أسقطها أهل غزة بصمودهم وثباتهم وتضحياتهم، وأن كل ما هُدم سيعاد بناؤه، وأن كل من رحلوا وقضوا هم اليوم شهداء عند الله، وسيقفون غداً عند العرض عليه، يطلبون حقهم ممن خذلهم.
الذي نعرفه أن الحكاية الفلسطينية لم تنتهي بعد، بل لربما للتو بدأت وعاد لها النبض من جديد، يتردد اسمها على ألسنة الملايين من أحرار العالم، تقودهم جنوب أفريقيا التي ذاقت طعم الإبادة الجماعية والتفرقة العنصرية، تسعى لمحاسبة إسرائيل وتضع جرائمها على طاولة المحكمة الدولية.
الذي نعرفه تماماً أن الغلبة ما كانت يوماً إلا لصاحب الأرض والحق ما ظل متمسكاً بحقه، وأن المحتل وإن طال الزمن أو قصر مصيره النهاية، نهاية قد لا تكون بالضربة القاضية وإنما على دفعات ومراحل، وأن "طوفان الأقصى" كان سطراً في حكاية النضال الفلسطيني ولن يكون الأخير.