أنهت الحرب الإسرائيلية الوحشية على قطاع غزة عامها الأول، لكن معاناة الفلسطينيين عمومًا والنازحين على وجه الخصوص لم تنتهِ بعد، بل تفاقمت مع انهيار المنظومة الصحية والبيئية وافتقارهم لأبسط مقومات الحياة الآدمية.
لم يرغب الفلسطينيون بترك بيوتهم وأماكن سكناهم إلا أنّ القصف الإسرائيلي العنيف الذي لم يتوقف منذ السابع من أكتوبر/ تشرين أول 2023 وقتل ودمر وعاث فسادًا في الأرض؛ أجبر نحو 2 مليون إنسان على النزوح نحو مدارس ومؤسسات وأراضٍ فارغة جميعها تحولت بمرور الوقت لمخيمات إيواء.
آخرون كُثر ضاقت بهم سبل البحث عن مأوى بعد الدمار الواسع والازدحام الشديد في مراكز الإيواء، فاضطروا لإنشاء خيام مترامية الأطراف على الطرقات وفي الشوارع والأراضي الفارغة، بمشهدٍ مأساوي للغاية يصعب على غير الغزي استيعابه.
وضمن تغطيتها الخاصة للذكرى السنوية الأولى لحرب الإبادة على قطاع غزة، تستعرض "وكالة سند للأنباء" في هذه المادة شهادات عدد من الفلسطينيين في المحافظة الوسطى، تحكي عن الحياة الصعبة في مخيمات النزوح، وسط آمالٍ لا تنقطع بانتهاء الحرب والعودة إلى ديارهم وإعمارها من جديد.
واحدة من هؤلاء السيدة فاطمة الداعور التي نزحت بعد أيامٍ قليلة من اندلاع الحرب بعد تعرض منزلها لقصف مباشر في مشروع بيت لاهيا شمال قطاع غزة، تقول وهي مريضة سرطان إنّها اضطرت للنزوح مع عائلتها إلى إحدى مدارس النصيرات وسط القطاع.
لكنّ عائلة الداعور لم تجد مكانًا لها في إحدى الفصول الصفيّة التي تحولت لبيوت مصغرة للنازحين، فاضطرت أن تُقيم بين ممرات المدرسة لـ 3 أشهر دون توفر أي قدر من خدمات الصحة العامة والغذاء والدواء.
ثم اضطرت للانتقال إلى مدينة دير البلح وإقامة خيمة في أحد مخيمات النزوح التي باتت تحمل أسماءً رمزية؛ للتعريف بها وتسهيل توزيع المساعدات المالية والغذائية في حال وُجدت من المؤسسات الإغاثية.
وتُخبرنا أنّ الخدمات الأساسية التي من المفترض أنها تصل إليهم بسهولة ودون عناء، يخوضون لأجل الحصول عليها رحلة يومية شاقة كتوفير المياه والطعام والحطب لإشعال النار للطهو وصناعة الخبز، مشيرةً إلى أنّ الغلاء الشديد وشح المساعدات الإغاثية فاقمت الأزمة.
وتؤكد ضيفتنا أنّ غالبية الخيام المصنوعة من الخشب والنايلون والأقمشة لا تصلح للعيش بعد عامٍ من الحرب، ولا تقي حر الصيف ولا برد الشتاء، كما أنها لا تراعي خصوصية العائلات ونسائها.
لكن كل المعاناة التي مرّت بها ضيفتنا لا تساوي شيء أمام ما فعلته الحرب من تشتيت لشمل عائلتها، عن ذلك تحكي: "بقي عدد من أفراد عائلتي في الشمال وكنت أنتظر اليوم الذي تنتهي فيه الحرب لأضمهم إلى صدري مرة ثانية، لكنّ آلة القتل أفقدتني نجلي الأكبر، وأصابت أحفادي بجروح"
" ما ودعته، ما في مكان أزوره فيه ولا قبر أشم ريحة ترابه"، بهذه الكلمات وبدمعات تحجرت في عينيها تصف "الداعور" أصعب مواقفها طيلة العام، وذلك بعد أن احتجز جيش الاحتلال جثمان نجلها الشهيد، دون أي خبر يُذكر عنه حتى يومنا هذا.
وبالرغم كدر الحياة طيلة عام، إلا أنا عبارات الرضى والصمود بدت جلية في حديثها: "فُرِض علينا الأمر الواقع غصباً، لكننا نحاول إثبات وجودنا في بلدنا، وهذه أرضنا لا نتركها، ونريد أن نعيش كيفما كانت".
في سياق المعاناة ذاتها، تقول المواطنية سعاد هشام جحا (35 عامًا) إنها نزحت من منزلها في منطقة الصناعة غرب مدينة غزة أكثر من مرة إلى استقرت أخيرًا في أحد مخيمات نزوح دير البلح، وفي كل مرة تزداد أعباء التشريد وصعوبته.
وتضيف أنّ النازحين يعيشون ظروفًا معيشية صعبة للغاية فغالبيتهم يعتمدون على التكايا الإغاثية لتوفير الطعام لعوائهم، فيما يكابدون من أجل الحصول على المياه سواءً الصالحة للشرب أو للاستخدام اليومي.
ولفتت أنّ الازدحام الشديد في مخيمات النزوح وانتشار برك مياه الصرف الصحي في الطرقات؛ أدى لتفشي الأمراض والأوبئة بين النازحين من النساء والأطفال وكبار السن، خاصة الأمراض الجلدية.
وتروي بعضًا من أصعب المواقف التي عايشتها خلال عام من الحرب، والتي يتمثل أبرزها بعد استهداف مدرسة نزحوا إليها في مخيم المغازي وسط القطاع.
وحول هذا الموقف تحكي: " كانت اللحظات أشبه بالقيامة عند استهداف المدرسة، لكني لم أتخطَ موقف ذلك الشاب الذي يصرخ يا إمي يا إمي، بعد استشهاد أمه التي كان شديد التعلق بها ويعيلها ويراعها بكل حب".
وتزيد: "ما أكثر المواقف الصعبة، مُذ تركنا بيوتنا تحت الدمار ومن بين الركام، وأمطار الشتاء التي تباغت خيمتنا كل ليلة ماطرة، بينما لا تحتمل حر الشمس في فصل الصيف لكنك مجبر لا مخيّر".
"أما عن أطفالي وأنا عاجزة عن توفير متطلباتهم واحتياجاتهم، فهذه غصة أخرى في قلبي"، تستكمل ضيفتنا حديثها بهذه العبارات، مضيفةً "ما يصبرني حتى اللحظة هو انتظار العودة إلى الشمال".
فلا يزال أمل العودة إلى الشمال قائمًا في قلب سعاد جحا، قائلةً: "كل شيء سيهون حين أسمع جملة غدًا عودة النازحين إلى ديارهم في غزة(..) كلما تخيلت شعوري في تلك اللحظة أصبّر نفسي أكثر بأن الفرج اقترب".
وعلى مدار أشهر الحرب المستمرة اضطر سكان القطاع للنزوح مرارًا حتى أن بعضهم نزحوا نحو 10 مرات؛ بهدف الانتقال إلى مناطق يُصنّفها الاحتلال بأنها "آمنة"، ويستمر في تغييرها بشكلٍ روتيني، ويتعمد قصفها وتدميرها فوق رؤوس النازحين ما خلّف أعدادًا كبيرة من الضحايا.
من مخيم البريج اضطرت السيدة صباع عودة الشيمي النزوح إلى رفح جنوب القطاع، بسبب خطورة المنطقة التي تعيش فيها، لكن بعد أوامر إخلاء المدينة في مايو/ أيار المنصرم، عادت إلى دير البلح وهناك استقرت مع عائلتها وزوجها المريض.
وتقول إنّ عدم عودتها إلى البريج لأنها منطقة تكاد تكون شبه خالية من سكانها وتتعرض لقصف مدفعي وجوي متواصل وعنيف في كثير من المرات، مضيفةً: "بعد أن فقدت نجلي الذي كان يُعيل الأسرة انكسر ظهري وصرت أخاف من فكرة الفقد لذا لا أستطيع العودة لمنزلي".
وتشير إلى أنّ زوجها المريض الممنوع من السفر للعلاج في الخارج، ويُحرم من حقه في الحصول على الدواء اللازم أصبح ينتظر الموت كل لحظة، موضحةً أنّ "حياة الخيام تفتقر لكل مقومات الحياة من غذاء ودواء وصحة عامة، ما يجعل حياتنا أشبه بالجحيم".
لكن وبالرغم من كل الألم والمعاناة التي تعتري ضيفتنا إلا أنها لم تفقد الأمل بالعودة: "منطقتي مش قادرة أرجع إلها، لو رحت بموت، لكن إلا ما أرجع فهذه أرضي وهذا تراب بيتي، لا أتخلى عنه لو بعد عقود من الزمن".
يُشار إلى أنّ جريمة التهجير القسري أوجدت نحو 543 مركزًا لإيواء النازحين في قطاع غزة التي تزداد يومًا بعد آخر، فيما أصبحت 74% من خيام النازحين غير صالحة للاستخدام، وفق التقييم الميداني للطواقم الحكومية في القطاع.